Wednesday, July 25, 2007

الإنقاذ: 18 عاماً من المحاورة لا الحوار

عندما نزعت الإنقاذ القناع عن وجهها بعد أيام قلائل من تمكنها من الاستيلاء على مقاليد السلطة في السودان صبيحة الثلاثين من يونيو 1989، لم تهدر كثير وقت للإفصاح عن توجهها الفكري العقائدي، والأسس التي ستقيم عليها نظامها الجديد، فأعلنت بجلاء تام أنها ثورة تأصيل إسلامية تهدف إلى إعادة صياغة المجتمع السوداني وصبه في قالب إطاره الدين الإسلامي والتوجه العروبي. وبالتالي حسمت (من وجهة نظرها) مسألة صراع الهوية في السودان، وأجابت على التساؤل المشروع عن مصير غير المسلمين وغير العرب من السودانيين "الذين يشكلون نسبة لا يستهان بها" بأن سبيلها لاحتواء هؤلاء هو الأسلمة (Islamization) والعربنة (Arabization)، ووسيلتها لذلك الجهاد بحد السيف وكما قال أحد سدنتها (د. عبد الله سيد أحمد) "الخيل معقود بنواصيها الخير"، فجهزت الجيوش وأعلنت الجهاد وأنشأت الدفاع الشعبي وروافده من خدمة إلزامية ونظام عام ومنظمة شهيد ودمغة جريح،، إلخ، وباختصار عمدت إلى عسكرة المجتمع السوداني تأسيا وتيمنا بالسلف الصالح في صدر الإسلام وفتوحات الصحابة، دون إدراك أو تبصر لما آل عليه العالم بعد أربعة عشر قرناً من الزمان. وبفجاجة وتسطح لا نظير لهما بدأت ثورتها التأصيلية بتغيير أسماء الشوارع والحارات والقرى والنجوع، وصار الجنيه ديناراً، وهكذا.
بل امتدت يد التأصيل لتطال ألقاب لاعبي كرة القدم فعرفنا أن بريش هو عبد الله، وتنقا هو حسن، والثعلب هو جمال، ومازدا هو محمد،،، إلخ، وبلغ السخف مداه وشمل حتى اللغة المستخدمة في البيانات الرسمية فسمعنا والي الخرطوم يقول في بيان مذاع "من أراد أن تثكله أمه فليقفل متجره أو يرفض بيع عنزته" بخ بخ يا أخا العرب ابن عبد الفتاح العبسي، نحمد الله أنك لم تضف "فليطالعني خلف خور أب عنجة".
والحق يُقال، ويعلو ولا يُعلى عليه، لم تكتف الإنقاذ بهذه الشكليات بل عمدت فعلاً إلى تغيير بنية وتركيبة المجتمع السوداني وطرحت مشروعها الحضاري الذي يمثل ذروة سنام قدرات مفكريها، وهو مشروع يتلخص في إلغاء الآخر أو إلحاقه (وقد عبر لاحقاً عن ذلك عبد الرحيم حمدي بمثلثه العجيب).
وفي الذكرى الثامنة عشر للانقلاب دعونا نستعرض استعراضاً موضوعياً إنجازات وإخفاقات الإنقاذ، ولنبدأ بالإنجازات المزعومة:-
*- استخراج البترول: تفاخر الإنقاذ بما تعتبره تاج عزها، "وسبب بقائها حتى الآن"، ألا وهو النجاح في استخراج النفط واستغلاله وتصديره، بعد الاكتفاء ذاتياً من مشتقاته. وهذا أمر محمود ولا شك، ولن نبخس الناس أشياءهم، ولكن جهود استخراج النفط بدأت قبل الإنقاذ وأول من جد في هذا السبيل نظام مايو (واسألوا شريف التهامي ينبئكم الخبر اليقين)، ثم ساهمت أزمة الطاقة العالمية و عجز العرض عن مواجهة الطلب المتنامي بدخول الصين والهند حلبة المنافسة على استخراج واستهلاك النفط، وحلول الصراع على الموارد محل الحرب الباردة بدلاً عن الصراع الأيديولوجي بين الرأسمالية والشيوعية، وبتلاقي المصالح (وعلى قاعدة إن المصائب يجمعن المصابينا) اتفقت الصين الملحدة مع دولة السودان الإسلامية المجاهدة، على استخراج النفط واستغلاله.
ولكن السؤال هو كيف تمت إدارة هذه العملية، وهل خضعت للشفافية والمساءلة، وهل استفاد منها المواطن السوداني العادي، وهل وُجِهت عائدات النفط لتحقيق التنمية وتحسين حياة الملايين من فقراء المدن والريف، أم أنها استخدمت لبناء الأبراج وتراكم الحسابات الدولارية لفئة محددة وشراء الأسلحة من السوق السوداء، والإجابة بلا شك معروفة للقاصي والداني.
*- ثورة التعليم: لا جدال في ازدياد أعداد المتعلمين بفتح المزيد من المدارس، ومع أن هذا هو الأمر الطبيعي الذي ينبغي عمله، إلا أن التخبط والعشوائية التي صاحبت عملية التوسع الأفقي في التعليم العالي ومؤسسات البحث العلمي، أدت إلى تدهور نوعيته تدهوراً خطيراً، فالأصل في التعليم العالي النوع وليس الكم، إذ لا يمكن أن نجادل بأن طبيباً نصف جاهل خير من لا طبيب، فالهدف من مؤسسات التعليم العالي هو إنتاج المعرفة (Production of knowledge) لمواكبة التطور والبحث العلمي الذي تستند عليه التنمية وعملية التطور بصفة عامة، وليس محو الأمية أو تخريج أنصاف متعلمين.
*- السلام: وهذا إدعاء كاذب، إذ لا يُعقل أن تؤجج الحرب في الجنوب لأكثر من خمسة عشر عاماً (1989-2005) وتحولها من تمرد ضد الدولة إلى حرب دينية وجهادية، ثم بعد الفشل عسكرياً وبعد الاستسلام بأفدح الأثمان تدعي بأنك حققت السلام، ولعله من نافلة القول بأن اتفاقية الميرغني/قرنق (نوفمبر 1988) والتي أتت الإنقاذ لوأدها، لم تذهب ما ذهبت إليه اتفاقية نيفاشا (حق تقرير المصير وخيار الانفصال). وذات الشيء ينطبق على اتفاقية أسمرة شرقاً، واتفاقية أبوجا غرباً. والأدهى والأمر أن الإنقاذ لا تستقيد أو تتعظ من تجاربها، فقد تشدددت وغلَبت العقلية العسكرية الأمنية عند خوضها حرب الجنوب، وتلكأت وتآمرت عند التفاوض، والآن تكرر ذات الأخطاء في دارفور، وتشددها سيقود إلى تصلب الطرف الآخر، لأن قوانين الطبيعة تقول "لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار مضاد له في الاتجاه"، وقد بدأت مشكلة الجنوب بالمطالبة باحترام الخصوصية الثقافية ثم تطور الطلب إلى الحكم الذاتي/الفيدرالي ثم الكونفيدرالية وانتهى الأمر إلى تقرير المصير وربما الانفصال، وهذا بالضبط ما يحدث الآن في دارفور إذ ارتفعت مؤخراً أصوات تنادي بالانفصال وأن دارفور لم تكن جزءاً من السودان حتى عام 1916.
*- أما مشاريع التنمية والخدمات الأخرى مثل، سد مروي وملحقاته، وسد كجبار، وطرق؛ شريان الشمال، وشندي الخرطوم وعطبرة بورتسودان، فالحديث عنها يطول، ولنتذكر قول وزير الري الأسبق/ يحيي عبد المجيد، بأن تعلية خزان الروصيرص (بتكلفة تقل كثيراً عن تكلفة بناء سد مروي) كان كافياً لأداء الغرض إذا كان الهدف هو ري الأرض وتوليد الطاقة، ونظرة خاطفة إلى التوزيع الجغرافي لهذه المشاريع، تشير إلى أن الغرض منها هو تنفيذ استراتيجية حمدي، خاصة والحديث الآن يدور جهاراً بضرورة تحالف أبناء الشمال النيلي والوسط (أولاد المصارين البُيض) لمواجهة هجمة أبناء الأطراف (ولا داعي لتوصيفهم)، ولعل هذا هو المنطق الذي يحاولون به إغراء الميرغني للتحالف مع المؤتمر الوطني، الذي سيرتكب خطيئة عمره إن رضي بأن يدفع فواتير الإنقاذ وخطاياها والوقوع في أحابيلهم مقابل منصب أو مال، فدهاقنة المؤتمر يعرفون تماماً ما فعلوه بالشعب السوداني، ويريدون توريط الجميع لأن الوزر ثقيل جداً عليهم وحدهم.
خلاصة أمر التنمية والخدمات، إنها واجب تقوم به كل الحكومات سواء كانت عسكرية أم مدنية، ديكتاتورية أم ديمقراطية، دينية أم علمانية (ولا شكر على واجب)، وقد فعلته كل الحكومات السابقة وتفعله كل حكومات العالم، ولكنه لا يشفع أمام الخطايا الكبيرة التي تضع مستقبل البلد كله، بل تضع وجوده، على كف عفاريت (وليس عفريتاً واحداً) ورهنه لإرادات خارجية تتداعى من كل صوب وحدب.
الآن، بعد أن فرغنا مما تعده الإنقاذ وشيعتها إنجازات، دعونا نُلقي نظرة سريعة على بعض خطاياها العديدة، لأن المجال لا يتسع لرصدها كلها في هذه العُجالة.
أولاُ:- تشريد العاملين فيما سُمي بالإحالة للصالح العام (والصالح العام براء) فهذا الإجراء يخالف كل الشرائع وقوانين حقوق الإنسان وآداب الخلاف السياسي، ويٌجافي كل الأعراف التي تقول "قطع الرقاب ولا قطع الأرزاق"، ولعل الله رد كيد الإنقاذ في نحرها، فقد أدى التشفي وتصفية الحسابات السياسية إلى إضعاف جهاز الدولة الإداري والاقتصادي والفني والأمني، وعجز الموالون عن الارتقاء إلى متطلبات الوظائف التي مُنحت لهم دون حق أو تأهيل. وخير دليل دامغ على هذا العجز ما نشهده الآن من دمار بسبب السيول والأمطار التي تفاجئهم كل عام، مما جعل أحدهم يعلق ساخراً "للإنقاذ أربعة أعداء: أمريكا، والفصول الثلاثة"، ولعله من لطف الله أن فصول السودان ثلاثة وليست أربعة، إذ لا ربيع لنا!.
ثانياً:- تمزيق نسيج الوحدة الوطنية بتأجيج النعرات الجهوية والقبلية، وضرب التعايش والتسامح الديني الذي اشتهر به الشعب السوداني، وقد أدت محاولة القسر والتهميش إلى استقطاب حاد بدأته الجبهة الإسلامية (وجنينها المستنسخ المؤتمر الوطني) بالإستقواء على معارضيها بتمييز أعضائها المنتمين سياسيا ًوتنظيمياً، ثم تطور (أو تدهور) الأمر إلى تصنيف المواطنين حسب قبائلهم والجهات الجغرافية التي أتوا منها، وأصبحنا نسمع أن هذا الجهاز محتكر لفلان وقبيلته، وأن تلك الوزارة مقتصرة على علان وجماعته، مما عاد بالسودان القهقرى، مئات السنين إلى الوراء، واختصر دولة المشروع الحضاري التي كانت تتشدق بقيادة العالم إلى مشروع قزم كل همه البقاء في السلطة حتى ولو تقلص مداه إلى مثلث، أو دائرة قطرها لا يتعدى القصر الجمهوري.
ثالثاً: الفساد: وبدون الدخول في تفاصيل واتهامات وتداول القصص الأسطورية التي تتندر بها منتديات السُمار في العاصمة والأقاليم حول الخصخصة وبيع مؤسسات القطاع العام بأثمان بخسة للمحاسيب والموالين، وبدون الرجوع إلى تقارير المراجع العام، ألا يستحق رئيس الجمهورية المحاسبة والمساءلة عن الكيفية التي منح بها الحركة الشعبية 60 مليون دولار (120 مليار جنيه سوداني بالتمام والكمال)، في الوقت الذي يموت فيه بعض المرضى على أبواب المستشفيات لعدم قدرتهم على دفع رسوم العلاج.
القائمة تطول لتشمل ازدياد الفقر وتدهور البيئة، وترييف المدن وإهمال الريف وتخريب التعليم، وتدهور الزراعة وانهيار الصناعة وغياب الخدمات العامة، وتشويه صورة وعلاقات السودان الخارجية، إلخ إلخ.
وبعد كل هذا وبدون ذرة من حياء تحتفل الإنقاذ بإنقلابها، ويحلم رئيسها بانتخابه رئيسا لفترة أخرى، كأنه لم يسمع عن رجل اسمه/ نلسون مانديلا، وشهرته "ماديبا"،تخلى عن السلطة بعد فترة رئاسية واحدة، وقال قولته الخالدة "البقاء للمؤسسات وليس للأشخاص، مهما كان دورهم".
ومع استحالة المقارنة بين الرجلين، إلا أنني لا أملك إلا أن أقول "عجبي".
مهدي إسماعيل مهدي/ بريتوريا
mahdica2001@yahoo