Monday, August 27, 2007

شي غيفارا وابن لادن... وسؤال فيه نظر! -- د. محمد عابد الجابري

إن ما يجري في العالم اليوم ليس صراع حضارات وإنما هو صراع الحضارة الغربية مع نتاجها... وإن العولمة الرأسمالية الامبريالية التي لا وطن لها قد أفرزت نقيضها على صورتها...إذا كان لنا أن نبحث عن الإطار الوطني المحلي الذي خرجت من جوفه الجماعات الإسلامية التي تمارس السياسة بواسطة نوع من الحرب يطلق عليه اليوم بعضهم اسم (المقاومة) وبعضهم اسم (الإرهاب)، فإن هذا الإطار لن يكون شيئا آخر غير ذلك الذي حمل ويحمل اسم (جماعة الإخوان المسلمين)· هذا لا يعني أن جميع من انتمى أو ينتمي إلى هذه (الجماعة) قد اختار ممارسة السياسة بوسائل أخرى (العنف، الإرهاب...). كلا، لقد كان منهم من اختار ذلك لمقاومة الاحتلال الأجنبي (احتلال الإنجليز لقناة السويس مثلا) وكان منهم من اختار الدعوة السلمية وسبيل (الموعظة الحسنة) في مخاطبة المسلمين حكاما ومحكوما، ولكن كان منهم أيضا من عبر -في ظروف معينة وبعنف كلامي لا مزيد عليه- عن اليأس من جدوى هذه الطريق (سيد قطب في (معالم في الطريق))، فكان مرجعية لكثير من الجماعات الإسلامية المتطرفة المعاصرة .ونحن هنا لا نريد محاكمة هذا التيار أو ذاك من تيارات الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، وإنما نريد أن نلتمس طريقا آخر بعيدا عن التحزب لفهم وتفهم الظروف الذاتية والموضوعية التي تدفع أو تساعد على الانزلاق نحو ممارسة السياسة بوسائل أخرى داخل المجتمع الحديث· ولا حاجة بنا إلى التذكير بما سبق أن قلناه بصدد العنف في التاريخ وفي التاريخ العربي الإسلامي، أعني كونه ظاهرة ملازمة للحياة الجمعية البشرية منذ أن كانت· ولكن لا بد من التنبيه إلى ضرورة استحضار ما هو من نصيب الموروث التاريخي الذي يسكن الذاكرة الجماعية ويتغذى منها ويتشكل بما يضيفه الخيال الاجتماعي إليه في كل عصر، من جهة، وما هو من نصيب معطيات الواقع المعيش، سواء على الصعيد المحلي أو الصعيد العالمي، من جهة أخرى·والمسألة التي سيدور حولها هذا المقال هي التالية: ما الذي يجعل جمعية دينية تتمسك بالإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقا، وهو الذي يجعل السلم والسلام مبدءا وغاية، تنزلق -أو ينزلق بعض أفرادها- إلى ممارسة أعمال لا يقبلها العقل ولا الشرع، من قبيل محاولة التخلص من المخالفين والخصوم بواسطة العنف في أقصى مظاهره كالاغتيال مثلا؟ وبعبارة أخرى ما الذي يجعل الواحد من هذه الجماعة يخلط بين جريمة القتل العمد، الذي يذهب ضحيته بغير حق فرد أو أفراد، وبين فريضة الجهاد؟ الجواب المعتاد الذي تبرر به مثل هذه الأعمال من قبل مقترفيها هو (تغيير المنكر)، وقد سبق أن بحثنا هذا الموضوع وبينا رأي الفقهاء فيه، بمن فيهم الفقهاء الذين تعتمدهم هذه الجماعات مرجعية لها كالفقيه ابن تيمية وتلميذه ابن الجوزية · لقد سبق أن أبرزنا وجود إجماع بين الفقهاء على أن تغيير المنكر هو من شأن (الإمام) أي الدولة، وليس الأفراد أو الجماعات؛ وقد استند الفقهاء في ذلك إلى أن أهواء الأفراد والجماعات تختلف، فما هو منكر عند فرقة أو طائفة من المسلمين قد يكون مباحا أو واجبا عند طائفة أخرى، وهذا أمر واقع مشاهد· فلو أن الشيعة مثلا غيروا بأيديهم ما يعتقدونه (منكرا) في عقيدة أهل السنة، ولو أن أهل السنة فعلوا الشيء نفسه في الشيعة، لبقي المسلمون في حرب أهلية دائمة منذ حرب صفين، منذ أربعة عشر قرنا!هناك من يطرح المسألة من زاوية أن (تغيير المنكر) والغاية منه، في هذا المقام، له معنى آخر باعتبار أن الأمر يتعلق هنا بـمنكر خاص هو (المنكر السياسي) الذي يعني هنا عدم وجود إمام شرعي يتولى تطبيق الشريعة الإلهية، وبالتالي فالمقصود هو تغيير الحكم وإقامة (الحاكمية الإلهية)· وهذا في الحقيقة هو مضمون عبارة (الإسلام السياسي)· غير أن هذا التبرير الذي يبدو كأنه خاص بالجماعات الدينية هو في الحقيقة تبرير عام تعتمده جميع الحركات والجماعات التي تعمل من أجل تغيير حكم قائم من أجل إقامة حكم أفضل· فالعنف السياسي -الذي يستهدف تغيير الحكم بوسائل غير سياسية كالاغتيالات والتفجيرات وما أشبه ظاهرة عامة، والغاية منه واحدة، وهي تتراوح بين (إقامة جنة الله في الأرض)، خالية من المنكر···(الحركات التي تستند إلى الدين إسلاما كان أو غيره)، وبين تشييد (مجتمع فاضل)، بدون طبقات بدون قهر، خال من الظلم، يستغني عن الدولة··· إلخ ··· (الإيديولوجية الشيوعية)· أما الدوافع في الحالتين فهي بطبيعتها غير محددة وملتبسة، قد تكون دوافع ذاتية فردية أو جماعية كالثأر والتعصب المذهبي والإيديولوجي··· إلخ، وقد تكون حوافز موضوعية كاستفحال الفروق الاجتماعية واشتداد الصراع الطبقي··· إلخ، وقد تكون دوافع مختلطة ذاتية وموضوعية معا كما يحصل عندما يجد صاحب الدعوة الدينية أو الإيديولوجية نفسه في عنق الزجاجة، أو أمام جدار الرفض المطلق للدعوة وأصحابها··· وإذاً فالسؤال الذي طرحناه أعلاه بصيغة الخصوص (ما الذي يجعل (جمعية دينية)، تتمسك بالإسلام، عقيدة وشريعة وأخلاقا، وهو الذي يجعل السلم والسلام

المصدر: الاتحاد ... العدد العدد 10320