Thursday, June 21, 2007

جنوب كردفان عند ذِرْوةِ المنتصف.. من أين وإلى أين؟-1

بعد حين تدخل الإنقاذ عامها العشرين. ويحنا، فالجيوش تدق الباب ثانية، بعد مئة عام. حاضرنا كان نصف قرن. مازلنا فلاحين بائسين ورعاة جاهلين، وأهل حواضر مرضى، على حافة الهاوية. عانينا احتباس الحاضر في قُمْقُمِ الماضي. وإذ تبينا كيف كنا ببطن الوحش، كاد زماننا يقتنصنا من جديد. هرولنا ثم ركضنا، بحثاً عن منجاةٍ تَفُكُ إسارَنا. ألفينا نهرا يهدر. قالوا: النيل، يحمل بوح قرون الزمن الخائب. مكتوبٌ في وجه الماء، ميثاق سلام. غرفنا ماء أحمرَ بلون الطمي. قلنا: هيا، نحمل عنه ثقيل الماضي. نجعلُ الحاضرَ مئزرا، يحمي سوءاتنا من عار المستقبل.
هذان مقالان لقراءة فرص مستقبل جنوب كردفان وتعقيداته المحتملة، باتجاه انتخابات ذروة المنتصف. بعض الأفكار وردت متفرقة في مواضع أخرى. استجمعناها تنبيها للحاكم والمحكوم، بأن بناء سلام مستدام يحتاج أكثر مما هو حاصل، لأنه أدعى للصبر وأغلى كلفة من الحرب. المقال الأول ينظر في الأحوال القائمة في ظل تجربة الحركة الشعبية في الحكم بجنوب كردفان. حفاوة الاستقبال، واحباط في آخر المآل بعد عام ونصف. المقال الثاني يتطرق للمفارقات التي تعانيها وثائق السلام وأثرها في جنوب كردفان. مصاعب برزت عند التنفيذ. وفرص جديدة لتعزيز مواضع القوة. ومراجعة مواضع الضعف عبر المشاورة الشعبية التي سيجريها المجلس التشريعي المنتخب عند ذروة المنتصف. خلاصة العرض، أن جنوب كردفان بحاجة لتعديل بوصلة الاقتصاد والسياسة، لتجيب عن السؤال: كيف نبتعد عن حافة الهاوية؟ عبر جهد مشترك، وأهداف مشتركة، لخلق هوية مشتركة؟
الحكام وعظائم المهام:
ليس بِخافٍ على الحكام والمسئولين ومتخذي القرار، بالخرطوم وكادقلي، أن هواجسهم الأمنية ستزداد أكثر، وتتعقد أكثر فأكثر، كلما تمادوا في اهمالهم التصدي للتحديات الماثلة بجنوب كردفان، وكلما تمادوا في تَلكُئِهِم في اقتحام المسببات الجِذرية التي أفرزت الحرب والصراع العنيف (1985 -2004). ذلك لأن جنوب كردفان (بحدود 1974، وبمساحة 144 ألف كلم2) هي الولاية الوحيدة التي كابدت ثلاث اتفاقيات في ثلاث سنوات فقط (2002-2004)، ومازالت تجأر تحت وطأة تناقضاتها. تلك كانت، في تسلسل زمني، اتفاق وقف إطلاق النار بجبال النوبة (19/1/2002)، وتم تأكيده في اتفاق نيفاشا-2005. واتفاق حل نزاع جنوب كردفان؛ ثم اتفاق حل نزاع أبيي (26 مايو 2004). الجهة المُخاطبة بتنفيذ هذه البروتكولات في النصوص الأصلية، هي مؤسسة الرئاسة. إلا أن تعديلات لاحقة، (ديسمبر 2004)، أدخلت صلاحيات للمؤتمر الوطني، نتج عنها تعقيدات عند التنفيذ. فالدرس الموجب للانتباه، هو أن جنوب كردفان بحاجة لبناء قيادة متفق عليها. يعقد المهمة، أن الاستفتاء المزدوج، يضعها تحت مجهر الانكشاف الاستراتيجي. هذا الاعتبار لوحده يوجب وضعها في بؤرة العين وأم الفؤاد، لجعل الوحدة جاذبة.
الأحوال القائمة: من ثقافة العنف للتعايش السلمي لنتذكر أن أجواء الحرب كانت مفعمة بشعارات وادعاءات وايدولوجيات متعارضة، محورها ثقافة العنف وإشاعة الحرب والاقتتال. كان كل فريق يطلقها ضد الآخر. كان محور الصراع هو احتجاج الحركة الشعبية بالتخلف الاقتصادي، والظلم الاجتماعي واهمال المنطقة، المتمثل في التهميش السياسي (غياب المشاركة في السلطة السياسية) والتهميش الاقتصادي (غياب التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنصفة والقسمة العادلة للموارد الاقتصادية). أما من جانب الحكومة فكان الاتهام بالتمرد، والخروج على الدولة، والعمالة وموالاة الأجنبي، هي مبررات استمرار العنف المسلح لاخضاع المحاربين من 1985 إلى 2004. ولنتذكر أن الحرب قد خلفت خرابا واسعا في الاقتصاد والبنيات الأساسية، وفي الزرع والضرع، مثلما أزهقت الكثير من الأنفس، وتركت أرامل وأيتام، مثلما تركت شروخا وانقسامات عميقة في المجتمع وفي العلاقات الاجتماعية والسياسية بين الإثنيات والقبائل. الواقع الماثل يريدنا أن نفهم: إن الحرب إذا كانت تتغذى على جيف البشر وعلى هدر الموارد، وتحطيم البنيات الأساسية، فهي فوق كل ذلك تتغذى على هدر الأخلاق في السياسة وفي المجتمع. فكيف يفوتنا، وقد أبقينا على الحرب لخمسة عقود، أن نجري جردا وتحليلا دقيقا لمدى الهدر الأخلاقي الذي أورثنا الفساد في كل مرفق؟
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ** فإن هُمُ ذهبت أخلاقُهم، ذهبوا
وبعد مضي أكثر من خمس سنوات، حيث حققت السبق بالتوقيع على اتفاق ممرحل لوقف اطلاق النار، مازالت جنوب كردفان تعيش أزمة مركبة: (1) ما زالت تبحث عن الاستقرار، حيث أمن المجتمع مهدد بالانفجار في أي وقت، لأن السلام الاجتماعي ما زال هشا. (2) لا توجد خطط للتنمية متفق عليها، واضحة المعالم والأهداف. فالمآسي وقلة الحيلة تطوق، من كل جانب، أحوال المعاش للمواطن العادي، في اقتصاد زراعي-رعوي-إعاشي بسيط، لم يتبدل جذريا لدى أغلب الناس عبر المئة الأعوام التي مضت. يسيطر عليه أثرياء الحرب وأعوانهم وصنائعهم الطفيليون. الأطفال واليافعون دون سن الخامسة عشرة يشكلون نصف المجتمع، فيظهرون ضعف صفاته الديمغرافية، وحاجته إلى تركيز الموازنة العامة على الخدمات الاجتماعية. كما تُظهِر أن قَدَر 46% فقط من السكان أن يتحملوا عبء إعادة إنتاج المجتمع، إقتصادا وبشرا. (3) الحركة السياسية المنظمة تكاد تكون معدومة، إلا من مناكفات الشريكين. لأن الجماهير لم يتم تنويرها بما يكفي بمجريات الأحوال. ولأن شركاء الحكم والقوى السياسية الأخرى لا تبذل جهدا كافيا لتنوير المواطنين بالأحوال القائمة. ولأنها قصرت في تمليكهم رؤية واضحة للمستقبل، وفي شرح تعقيدات الاتفاقيات التي أصبحت تنظم الحكم والإدارة. لذلك أصبح الاحتجاج الجماهيري فاقداً للفاعلية السياسية، ويميل إلى تدمير الممتلكات العامة، لأنه غير منظم بما يكفي، بسبب ضعف القوى السياسية وتنظيمات المجتمع المدني.
جاءت الحركة الشعبية (قطاع جبال النوبة) إلى سدة الحكم، في شراكة غير متكافئة مع المؤتمر الوطني. استقبلها المؤيدون والمتعاطفون بالترحيب والفأل الحسن، بأملٍ في الإصلاح وإعادة البناء والتعمير. فهاهي تترك موقع القيادة دون أن تترك استراتيجية واضحة، على هدى شعارات ومنهج السودان الجديد، للخروج من الأزمة المركبة التي خلفتها عشرون سنة من الحرب. بل تبين للناس أن الحركة الشعبية جاءت بضعف واضح في قدرات وخبرات كوادرها المناط بها إدارة دفة الحكم. فوقعت أسيرة مطبات اصطناعية نسجها الشريك الأكثر مراسا. وبعد عام ونصف من فترة حكمها، لم تخرج من جلباب شريكها. تاه جهدها، وفشلت في إرساء قواعد التغيير والتحول المرغوب. فلم تضع أهدافاً واضحة للتنمية، وترميم البناء الاجتماعي. فهاهي تترك موقع القيادة، وقد تبددت آمال المناصرين في إصلاح يأتي عبرها، وحاق بالجماهير حال المستجير من الرمضاء بالنار. فها هو مواطن جنوب كردفان قد أصابه الإحباط، وضاع عنه الحماس، وضعف فيه حافز التأييد والتعاطف والمؤازرة.
إذن، فمستقبل جنوب كردفان – أرضاً وموارد وبشراً – أصبح كما بلا هدف، فالبوصلة معطوبة. كانوا قد عرفوا مع المؤتمر الوطني حكاية "قام سافر تاه" لقرابة عقدين من الزمان، وما عرفوا كيف تخرجهم الحركة الشعبية من تلك المتاهة. لذلك ما زالت جنوب كردفان تبحث عن قيادة متفق عليها، توحدها وتتحرك بأهلها لبناء هوية مشتركة، على منهج الحوار الداخلي الشفيف من أجل التضامن والتعايش السلمي. أساسها تكامل الموارد والثروات التي تزخر بها المنطقة. وآليتها التفاهم والتراضي على مصالح مشتركة، على مبادئ ومنهج اتفاق نيفاشا، تتولد عنها أهداف مشتركة، لمصير مشترك، يُمَكِّنُ لِحُكْمٍ لا مركزي مُحَصَّن بتضامن أهلها.
من الحاضر إلى المستقبل:
اتفاقيات جنوب كردفان، يشوبها كثير من التعارض الداخلي في نصوصها، والتناقض الخارجي تجاه بعضها البعض، لسبب أنها تمت في مسارات ومنابر مختلفة. وتم اعتمادها تحت رعاية دول مختلفة، لها حساباتها بحكم مصالحها المتشابكة. إضافة إلى أن فريق التفاوض في كل حالة كان يتغير، بل ويتم تبديله كلية، بمنظور الولاء السياسي فقط. هذه الاعتبارات تكفي لتبرير مراجعتها في النصف الثاني من الفترة الانتقالية، عبر المشاورة الشعبية، حتى نغسل عنها أثر ثنائية الاتفاق، وتشققات الجبهة الداخلية.
على أن هذه الاتفاقيات تحمل برهانا بينا، ليس فقط على عمق تعقيدات النزاع بالمنطقة، بل على الأهمية الاستراتيجية لجنوب كردفان في إطار شمال السودان، من حيث الاعتبارات الجيو-سياسية والجيو-اقتصادية، الآنية والمستقبلية. خاصة إذا تمخض الاستفتاء حول تقرير المصير فولد دولة جديدة في الجنوب. فجنوب كردفان هي الأوفر حظا في الحدود مع الاقليم الجنوبي. وهي الأوفر حظا في البترول المنتج حاليا في الشمال. وهي الأوفر حظا في أعداد المسرحين من قدامى المحاربين الذين يرغبون في العيش وسط أهلها، وترتيب حياتهم المستقبلية بأرضها. لنتذكر أنهم كانوا عناصر جيوش احتربت لعقدين من الزمان. فكيف نضع البنزين قرب اللهب؟ إننا أمام كمين ملغوم بعشرات الآلاف من القنابل الموقوتة، شديدة الانفجار. وهل ضرنا أكثر من الاستهانة بـ "الماء تحت التبن"؟
لهذه الاعتبارات الاستراتيجية الدقيقة، نرى جنوب كردفان ’متروكة ومنسية’ في أولويات مسيرة البناء والتعمير والتنمية في الفترة الانتقالية. فقد ظلت بعيدة عن ’قلب’ الحاكم في الخرطوم، وإن كانت قريبة من عينه الأمنية. على أن الحرص الأمني وحده لا يكفي، بدليل أن تكرار زيارات كبار المسئولين إليها (ديسمبر 2006- مارس 2007)، دون أن يشهد أهلها منافع لهم، لم تُحدث آثاراً تُذكر في تحسين أحوال التنمية البشرية في معاشهم، أو صحتهم وتعليمهم، أو بناء قدراتهم للتشغيل والكسب وزيادة الدخل ومحاربة عطالة الشباب، أو رفع الألغام أو جمع السلاح السايب.
ولعل قصور الرؤية الاستراتيجية المتعمقة لإزالة مسببات التنازع والصراع، والاستهانة بنداءات المشفقين والمتشددين والرافضين والمعارضين، هي عوامل رئيسية في تعثر تنفيذ اتفاق السلام بالمنطقة. ونرى في مسلك الحكام، استعاضةً عنِ الجِدِ بملهاة المعادلات اليومية للحكم والإدارة. ونرى سخرية الملهاة في مشاكسات الشريكين عبر العامين المنصرمين. وتأليبهم مؤيديهم في اتجاهات متعاكسة. مثل اعتراض مناصري الحركة الشعبية طريق نائب الوالي عند قيامه بزيارات تفقدية في أكثر من موقع؛ أوالتحرشات والمصادمات بين مؤيدي الشريكين على مستوى القواعد.
من حلاوة الاتفاق إلى تعقيدات التنفيذ: اتفاق وقف إطلاق النار بجبال النوبة، رعته الولايات المتحدة وسويسرا. اتخذ من جبال النوبة محورا لاهتمامه، وعَرَّفها بأنها تضم ولاية جنوب كردفان (82.000 كلم2)، بالإضافة لمحلية لقاوة (10.568كلم2). أما اتفاق "حل نزاع أبيي" فينفرد بمنطقة مشيخات دينكا-نقوك التي تحولت لإدارة كردفان في 1905. فعزلها عن باقي جنوب كردفان، بانتظار استفتاء بنهاية الفترة الانتقالية لتحديد تبعيتها، للجنوب أم للشمال. من أهم حلقات تنفيذ هذا الاتفاق صدور تقرير مفوضية حدود أبيي الذي حدد مساحتها لأول مرة في 18.626 كلم2. وجدير بنا تذكير الشريكين والفاعلين من المسيرية والدينكا-نقوك أن ذلك التقرير، بصرف النظر عن المناظرة حول تأييده أو الاعتراض عليه، يحكي واقع الأحوال كما بدت للخبراء قبل مائة عام، لأن شرط صحته أن يكون مبنيا على البحث والتحليل العلمي. وليس أن تتطابق نتائجه مع الرغبات السياسية الآنية لشركاء الحكم. وحري بالفرقاء أن يسترشدوا به للخروج باتفاق عملي وتكييف واقعي لدلالات التغييرات التي حدثت، عبر قرن مضى بعد الحدث، حتى يصلوا إلى معادلة جديدة واتفاق يجعل التعايش السلمي ممكنا بمنطق الحاضر، ويحفظ حقوق المسيرية والدينكا، بعمق المستقبل.
وثمة خمس ملاحظات جوهرية نرفعها لأهل الحكم. أولا: فقد تمت كتابة اتفاق حل نزاع أبيي من قبل المبعوث الأمريكي (دانفورث)، واعتمده طرفا اتفاق نيفاشا دون تعديل أي حرف فيه، وتلك كانت الهنة الأولى للفريق الحكومي للتفاوض. لأنها منحت الخبراء الكلمة الأخيرة وحق كتابة القرار النهائي والملزم للأطراف. ثانيا: مشكلة هذا الاتفاق السياسي لقضية أبيي، متعددة الجوانب: فمن ناحية، يسمح الاتفاق للمسيرية فقط بحق عبور المنطقة رعيا وبحثا عن الكلأ والماء؛ ويحرمهم حق الإقامة والتملك والاستثمار. وذلك حق دستوري مكفول بالأصالة في المادة (42) لكل سوداني في أرض الوطن. إن أيُ تقرير أو قانون يتعدى على الحقوق الدستورية ليسلبها، يصبح باطلا من حيث المنشأ والغرض. ومن ناحية أخرى، نلاحظ أن واضع ذلك الاتفاق (دانفورث) غريب على الثقافة والعادات المحلية. ونصوص الاتفاق لم تعر انتباها للأبعاد الاجتماعية والثقافية التي ظلت تربط بين الدينكا-نقوك والمسيرية في أسلوب المعاش الرعوي الترحالي. وأي اتفاق يفشل في مراعاة هذه الجوانب يكون ناقصا ومعيبا.
ثالثا: تقرير مفوضية حدود أبيي يتجاهل، بعمق المستقبل، مبدأ الشراكة المتكافئة بين الناس في الماء والكلأ والنار. فهو يعزل المسيرية صيفا عن حق أساسي في البقاء (مياه الوديان الموسمية)، علما بأن وصول قطعانهم بحر العرب صيفا، شرط "حياة أو موت". خاصة إذا اختار الدينكا، عند الاستفتاء، أن يتبعوا بحر الغزال، و اختار الجنوب طريق الانفصال. في هذه الحالة سيتجدد التنازع والصراع، ليس على المرعى في حد ذاته، بل سيكون دافعه النضال من أجل تأمين حق البقاء على قيد الحياة، كحق إنساني أساسي وصريح. إذ لن يستطيع الرعاة العيش والبقاء دون الوصول لموارد المياه صيفا في الرقبة الزرقا.
رابعا: ومن المهم تنبيه شركاء الحكم، أنه طالما استمر المسيرية في ممارسة أسلوب الرعي الترحالي، ولم يتحولوا للحياة المستقرة، تظل حدود تقرير الخبراء علامات لفصل تعسفي. ذلك لأن تغيرات البيئة والمناخ خلال نصف القرن الأخير فرضت على المسيرية اختراق المنطقة إلى الجنوب من أبيي لأكثر من مائة كيلومير بحثا عن المرعى، وسيظلون على هذا المنوال في المستقبل المنظور. وهذه احدى نقاط الضعف الناتجة عن عدم دراية سناتور دانفورث، كاتب اتفاق أبيي، بالمنطقة التي اربكت كلماته مستقبل أهلها وحكامها. إذن، يلزم الشركاء الالتفات لكتابة اتفاق تكميلي، يصحح ما وضح من هنات.
خامسا: الملحق ج-2 للاتفاق يتضمن مسائل تقررها الرئاسة، ومنها (المادة 3-5) الخاصة بالموافقة على الحساب الخاص لمنطقة أبيي ، حيث تقترحه سلطة أبيي الإدارية، وتوافق عليه مؤسسة الرئاسة. لا يتضمن الاتفاق ترتيبا مماثلا يحتضن الموارد المالية المخصصة محليا لمنطقة المسيرية من البترول المنتج فيها. ونسمع المسيرية يرددون احتجاجات مفادها أن أجهزة الدولة العليا المناط بها تنفيذ الاتفاق - الرئاسة، مفوضية تخصيص الموارد ووالي الولاية – ينبغي أن يراعوا نص وروح (المادة 225 من الدستور القومي الانتقالي؛ مقروءة مع المادة 192-5)، حتى لا يتسببون مجتمعين في الإضرار بمصالح سكان المنطقة. المادة 225 تجعل جزءاً من الدستور كافة نصوص اتفاق السلام الشامل التي لم يتم تضمينها صراحة فيه، وتصبح في حكم المنصوص عليها به. إذن فالموارد المالية المخصصة للمسيرية في اتفاق أبيي وفي ملحق جنوب كردفان، تصبح استحقاقات دستورية أصيلة، يجب عدم حجبها عن مستحقيها المخصصة لهم في هيئة موارد مالية. وبالطبع ستوظف للتنمية المحلية، لمصلحة كافة مواطني المنطقة، عبر المكتب الفرعي لوزارة المالية (نائب مدير المالية بالفولة) بالتشاور مع ممثلي أهل المنطقة. لذلك يجب عدم استبدالها، لأي سبب، بموارد عينية أخرى أو أن تأتي في هيئة خدمات ضمن الخطة العامة، كما تدعي حكومة الولاية. كذلك يجب عدم الخلط في تكييف استحقاقات المسيرية بأي تفسير آخر يستبعد مستوى الحكم المحلي عموما من تلقي موارد مالية بترولية من مفوضية تخصيص الموارد.
من شمولية الشريكين إلى ذِرْوة المنتصف:
الانتخابات المتوقعة في 2008 هي ذروة منتصف فترة الانتقال. وشرط صحتها أن تتم بعد إجراء حصر شامل للسكان، وأن تكون حرة ونزيهة، تحت إشراف مراقبة دولية. على أن أهم أركان النزاهة توفير تكافؤ الفرص. فكيف يتوفر التكافؤ وبعض القوى السياسية تسندها جيوش تعترف بها الاتفاقية؟ وقوى أخرى عزلاء، ليس لها جندي واحد. الوفاء بهذه الاعتبارات يجعل الانتخابات ذروة المنتصف، فتكون نقطة مفترق الطرق لبناء "السودان الذي نريد". وتصبح الآلية والمظهر الأكثر بروزا لتحقيق التحول الديمقراطي على الأرض. فهي عملية جماهيرية مصيرية لأهل السودان.
خصوصيتها لجنوب كردفان تنبع من مدى قبول الجماهير لترتيبات حل النزاع، عبر المشاورة الشعبية. فالاتفاق يقول إن الانتخابات ستأتي، لأول مرة، بحاكم منتخب ديمقراطيا، ليقود الولاية نحو "تنمية الموارد البشرية والبنية التحتية"، باعتبار أن الهدف الرئيسي لانتخابه هو "... تلبية الاحتياجات الانسانية وفقا لأفضل الممارسات المعروفة للتنمية المستدامة، في إطار من الشفافية والخضوع للمساءلة". فالطريق أصبح مرسوما بمهام محددة، محورها التنمية البشرية، في ضوء مبادئ واضحة تقيد الحاكم المنتخب بالشفافية والخضوع للمساءلة. وتلك مبادئُ افتقدناها منذ إنشاء جنوب كردفان في 1974؛ وحري بنا أن نحرص عليها ونمارسها بأعلى درجات المسئولية الجماهيرية.
ستأتي انتخابات ذروة المنتصف بمجلس تشريعي منتخب، مهمته الأكبر ممارسة المشورة الشعبية، لكونها "حق ديمقراطي، وآلية لتأكيد وجهة نظر مواطني (الولاية) ... عن طريق ممثليهم المنتخبين بصورة ديمقراطية". ومن مهام المجلس التشريعي للولاية: (1) أن ينشئ لجنة برلمانية للتقويم ولقياس تنفيذ الاتفاقية، ترفع تقريرها للمجلس بحلول السنة الرابعة من تأريخ 9/1/2005 (أي في يناير 2009). (2) "عندما يعتمد الشعب هذا الاتفاق من خلال المجلس التشريعي ... ويرى أنه يحقق تطلعاته، عندئذٍ يصبح الاتفاق تسوية نهائية للنزاع السياسي ..." في جنوب كردفان. أما إذا رأى المجلس التشريعي أن يصحح قصورا في الترتيبات الدستورية والسياسية والإدارية ، في إطار الإتفاقية، تشرع السلطة التشريعية في التفاوض مع الحكومة القومية بغرض استكمال النقص. هذه النصوص ترمي بكل المسئولية على المجلس التشريعي المنتخب بالولاية. وهي مسئولية أن يتحول الاتفاق من كونه ترتيباً مؤقتاً، إلى مرحلة كونه حلا مستداما. لإنجاز هذه المهام، وجب على جماهير الولاية أن يقدموا إلى المجلس التشريعي أفضل من عندهم في التصدي للقضايا العامة، من أهل الرأي السديد، تأهيلا وعلما وممارسة، ووعيا ودراية، وحكمة وحنكة.
د. عبدالباسط سعيد

No comments: