Saturday, June 23, 2007

جنوب كردفان عند ذِرْوةِ المنتصف (2) ملاحظات في تعارضات بروتكولات جنوب كردفان

في المقال السابق، قلنا إن جنوب كردفان هي الولاية الوحيدة، التي كابدت توقيع ثلاث اتفاقيات، عبر ثلاث سنوات، قبل أن تصل لوقف دائم لإطلاق النار. وقلنا إن تعارضات داخلية وخارجية تشوب تلك الاتفاقات. يميز هذه الاتفاقيات أن التفاوض حولها وتوقيعها جرى تحت رعاية دول مختلفة (سويسرا، الولايات المتحدة، ثم كينيا). ولكل اتفاق إطار زمني وحيز جغرافي وصلاحيات والتزامات تختلف عن الآخر. مجريات التفاوض الموزع بين الدول، هو المسئول عن أي تعارض يصيب هذه الاتفاقات. وبصفة خاصة، حالة الإرباك التي قادت الطرفين لإدخال تعديلات جوهرية قبل التوقيع النهائي، والجمود الذي أصاب الطرفين عند مرحلة التنفيذ. ملاحظة مهمة أخرى، حول وثيقة "حل نزاع جنوب كردفان"، أن واقع الحرب كان يقوم على مجريات المواجهات العسكرية، حيث نشأت مناطق تخضع لسيطرة الحركة الشعبية وأخرى تخضع لسيطرة الحكومة. مناطق سيطرة الحركة تقع في الهضاب حيث كانت الحرب تدور. الطبيعة الجبلية لتلك المناطق (هضبة هيبان، المرتفعات الوسطى، هضبة النيمانج، وجبال ميري) كانت توفر مخبأً وتحصينا دفاعيا للجيش الشعبي، لكنها مناطق قليلة الخصوبة لإنتاج الغذاء في زمن السلم؛ حيث يصبح ضروريا هبوطهم عن الهضاب وقمم الجبال إلى السهول. أما الجيش النظامي فقد كان يسيطر على الوديان والسهول الخصبة. قدرت الأمم المتحدة (1999) عدد سكان مناطق الحركة بــ370.000 بينما قالت الحركة 500.000 نسمة.



لقد أنشأت الحركة مناطق إدارية وهياكل حكم (كاونتي، بايام، بوما)، تحتضن أجهزة منظمة مثل الشرطة والمحاكم والخدمة المدنية، لم تعترف بها الاتفاقية صراحة، ولم يزل استيعاب عناصرها أمرا خلافيا. لكن الاتفاقية اعترفت بجيش الحركة الموجود بها، وأمنت له عدم تدخل الجيش الحكومي عبر الفترة الانتقالية. ظل سكان هذه المناطق مشحونون بواقع الصراع وأهدافه، وكونوا هوية قتالية يصعب تبديدها في واقع العزل الجغرافي والإداري القائم، الذي أصبح يتجذّر منذ بدء الحرب في 1985، ولم يتغير جِذريا منذ توقيع الاتفاقية، بل أصبح معوقا موضوعيا لعمليات إعادة الدمج في المجتمع المدني. وسيبلغ مداه الزمني، بنهاية الفترة الانتقالية، 27 عاما من الفصل الجغرافي التعسفي. ويزيد هذا الواقع تعقيدا، غياب الطرق ووسائل النقل والاتصالات. السبب، تلكؤ الشريكين في تنفيذ الاتفاق.



النتيجة، أصبح بين يدينا جنوب كردفان مقسمة بقوة دفع "الأمر الواقع": كانتونات للحركة وكردستان للحكومة. يعمق هذا العزل الجغرافي/ الإداري عقلية ثقافة العنف، وهي أثر سلبي من متعلقات الحرب. بدليل أنه لم يدخل مسئول بالحكومة، يتبع للمؤتمر الوطني، لمناطق الحركة. ولم تستطع الحكومة جمع أية ضرائب للخزينة من مناطق الحركة. ومعلوم أن دفع الضرائب هو إشارة خضوع المواطن لسلطان الدولة. يقابله التزامها بتقديم خدمات للسكان. السؤال: كيف تتأسس العلاقة بين الحاكم والمحكوم، في غياب دفع الضرائب، وغياب الخدمات؟.



وثيقة "اتفاق حل نزاع أبيي" (26/5/2004)، طالتها تعديلات مهمة للمادة (5.1) في 17 ديسمبر2004، قبل التوقيع النهائي، (المادة 5 من ملحق "التفاهم حول مفوضية حدود أبيي"). بموجب هذا التعديل أصبح للمؤتمر الوطني كحزب سياسي الحق في تشكيل مفوضية حدود أبيي، وبالنتيجة أصبح له الحق في تقييم مخرجاتها (رفض تقرير المفوضية)، بينما كان ذلك الفعل من صلاحيات مؤسسة الرئاسة فقط. كذلك أُدخِل تعديل على المادة (5.2) تم بموجبه تغيير الإطار الزمني الذي يتوجب خلاله تقديم تقرير المفوضية، حيث كان 24 شهرا، فأصبح ستة شهور. هذا يوضح سبب استعجال المفوضية في إعداد التقرير في أربعة شهور فقط (11 مارس -14 يوليو).



بموجب اتفاق "حل نزاع جنوب كردفان" تم إلغاء ولاية غرب كردفان، وضُمت منطقة المسيرية الغنية بالبترول إلى جنوب كردفان، فأصبحت تسمى "القطاع الغربي"، ومساحتها 62 ألف كلم2. المهم هنا أن بعض قيادات الحركة الشعبية كانت ترفض ضم هذه المنطقة إلى جبال النوبة، بدعوى أنهم لم يطالبوا بها اصلاً؛ و أن إضافة 500.000 نسمة (عدد سكان منطقة المسيرية) من شأنه أن يخل بالتوازن السكاني عند حلول انتخابات ذروة المنتصف. ويبرز احتمال أن يفقد النوبة ميزة الأغلبية العددية، في مقابل السكان ذوي الجذور "غير النوبة". وبالتالي يحرمهم من السيطرة على المجلس التشريعي الذي سيقرر في مستقبل الاتفاقية عبر المشاورة الشعبية. خاصة وأن المسيرية عرفوا بمساندتهم غير المشروطة لمركز السلطة أثناء الحرب، بصرف النظر عن "الهوية السياسية/ الايدولوجية" للنظام الحاكم في الخرطوم. ويكفينا أن نقول، إن الجيش الشعبي (قطاع جبال النوبة) لم يكن راضياً عن المشاورة الشعبية كبديل لــ "حق تقرير المصير" الذي كانوا يطالبون به أسوة بالجنوب. ونقرر أن ما ورد في نصوص الاتفاق هو فقط الملزم قانونا. هذا واحد من العناصر المسكوت عنها في تفسير غياب الانسجام بين الشريكين في حكومة الولاية. فهو منبع ذرائع أدت لتأخير دستور الولاية لمدة عام، ويفسر إصرار الحركة الشعبية على تداول رئاسة المجلس التشريعي. خسرت الحركة الرهان لأن حجتها لم تكن مسنودة بنصوص الاتفاق.



أجري تعديل آخر على أتفاق حل نزاع جنوب كردفان، بموجب "ملحق جنوب كردفان" في 31 ديسمبر 2004، حيث أُعيد توزيع النسب المئوية لنصيب الولاية من البترول المنتج فيها. النقطة المهمة هنا أن كل النسب المئوية المعدلة وردت أصلا في نصوص اتفاق حل نزاع أبيي، بينما لم ترد أي إشارة في التعديل إلى أن هذا الملحق يُجري تعديلا جوهريا على اتفاق حل نزاع أبيي. سكتت الحركة الشعبية عن اثر التعديل، لأنه وافق هواها. بينما تثير الغبار الآن بأنها لن تسمح بتعديل "فاصلة" في بروتكول أبيي، لتفتح خطاً لتسوية محتملة.



للحرب ضحايا وللسلام تضحيات



قلنا إن اتفاقات جنوب كردفان مليئة بالتعارضات. وبالطبع تترتب عنها نواقص يظهرها التطبيق. وإن اتفاق نيفاشا ولد من رحم عملية سياسية، كانت تجري في ظل الحرب. إذن، فهي حلول سياسية، يتكشف خطلها عند الاحتكام للممارسة في الشارع السياسي. فلنأخذ العبرة من أثر هذه التعارضات على القطاع الغربي لجنوب كردفان، المعروف بمنطقة المسيرية. فقد قدموا الشهداء والضحايا أثناء الحرب. ويبدو أنهم سيقدمون التضحيات للمحافظة على السلام.



عندما أصبحت جنوب كردفان منتجة للبترول، بحكم نصيبها في بترول منطقة المسيرية. تطابق اجراء التعديل بموجب ملحق التفاهم حول جنوب كردفان، مع مجيء الحركة الشعبية للحكم. تغير موقف الحركة لأنهم تيقنوا من تدفق موارد البترودينار في أيديهم. فأصبحوا يقولون إن منطقة المسيرية جزء اصيل من جنوب كردفان التاريخية. هذه قولة حق، ولكن كيف نتج عنها تغييب الموارد المالية المستحقة للقطاع الغربي؟



هنا ظهر موقف جديد عند المسيرية. أصبحوا يطالبون بنصيبهم، المعدل تخفيضا، في موارد البترودينار المخصصة لهم بموجب نصوص الاتفاق. لم يجد المسيرية سبيلا لهذه الموارد، لأنهم فقدوا الحمية التنظيمية الناجزة التي تضعهم في بؤرة الفعل السياسي الجاذب لاهتمام الحاكم. فظنوا أن المؤتمر الوطني باعهم. شهد شعب المسيرية انتفاضة الشباب المعروفة بــ (شمم). حتى زارهم رئيس المؤتمر الوطني، فتبينوا أن تلك الموارد دخلت خزينة حكومة الشريكين في كادقلي. فقالوا، إذن، أصبحت حكومة الولاية تنفقها حسب الموازنة العامة، دون سند من الدستور.



هنا بدأ بعض المسيرية في الحديث بأن عدم استلامهم مواردهم المالية من الأنصبة البترولية يعني الظلم والاستغلال. فأصبحنا نسمع دعوات متقطعة وسطهم، مفادها أنهم قبلوا ضمهم لجنوب كردفان، فقابلتهم بالجحود وأكل حقهم بالباطل. ولرفع الظلم، يظنون أن من حقهم استلام نصيبهم، أو المطالبة بفصل منطقتهم في ولاية جديدة، بمساحة 43 ألف كلم2 وسكانها نصف مليون تقريبا. يظنون أن ذلك ممكن ضمن تعديل الترتيبات الدستورية والسياسية والإدارية الواردة في الاتفاقية، من خلال عملية المشورة الشعبية عند ذروة المنتصف. وأن ينظموا أنفسهم بهذا الاتجاه.



من حق المسيرية أن يعلموا أن الفارق بينهم وبين حالة أبيي هو أن اتفاق أبيي حدد مؤسسات بعينها مناط بها استلام الموارد المخصصة محليا لدينكا- نقوك. بينما صمت عن أي مؤسسات مخولة لاستلام وتصريف نصيب المسيرية. بل يدعي البعض، ذو الغرض، إن مستوى الحكم المحلي (محليات القطاع الغربي) أصبح، بحكم الدستور القومي الانتقالي، غير مخول لتلقي موارد بترولية من مفوضية تخصيص ومراقبة الموارد المالية. بهذا التفسير المعيب حصل التفاف على حق دستوري للمسيرية. وبقراءة استرجاعية، يقول المسيرية إنهم فقدوا أرض أبيي بموجب تقرير الخبراء، بعد أن سدوا الثغور عشرين عاما. وهاهم يفقدون نصيبهم من موارد البترودينار، لسبب أن الاتفاقية لم تحدد مؤسسة مخولة باستلام وتصريف نصيبهم من موارد البترول. إذن، يلزم المسيرية الكثير من الجهد المنظم في "الحوار" للحصول على حقوقهم الضائعة. من حق محليات القطاع الغربي الأربعة أن تفوض شعبيين يمثلونها، من جميع الإثنيات والقبائل. وعليهم وضع مطالبهم في أجندة سياسية ضمن فعاليات الحراك الانتخابي، في برنامج سياسي-جغرافي. ومن حقهم أن يطلبوا الموقف الصريح والرد الفوري من شركاء الحكم، بعين مفتوحة، لانتخابات ذروة المنتصف. ومن حيث خارطة الطريق، على ممثليهم أن يجتمعوا بنائب الأمين العام لوزارة المالية بالفولة. ويجتمعوا بعد ذلك بممثل الولاية لدى مفوضية تخصيص الموارد، لاستكشاف آرائهم في ضوء نصوص الاتفاقية، ثم يتجهوا إلى الوالي، ثم مؤسسة الرئاسة. والمحكمة الدستورية هي الملاذ الأخير.



من حق المسيرية أن يعلموا أن محلياتهم الأربعة هي الوحيدة، في مستوى الحكم المحلي بالشمال، التي نصت اتفاقية نيفاشا على موارد بترولية لها. وطالما أن نصوص نيفاشا هي في حكم النصوص الدستورية، فعليهم ألا ينصاعوا للتفسير القائل: إن صمت الدستور يشملهم، عندما أهمل تخصيص موارد لمستوى الحكم المحلي. ذلك تفسير معيب. السؤال: هل سيتمكن المسيرية من فهم وفعل مبكر لكسب حقوقهم، بحيث يستجيب الوالي القادم من المؤتمر الوطني لهذه النصوص، ويبتعد عن حجب موارد مستحقة لمحلياتهم؟.



هذه قراءة معقولة للنصوص، وليست تحريضا. لأن من واجبنا توعية الناس بحقوقهم، وأن نحضهم على المطالبة بها بمنهج سلمي، خاصة من لم يدققوا الاطلاع على نصوص الاتفاقية. الشيء المهم، على هذه الخلفية، أن غياب مؤسسة مخولة على مستوى القطاع الغربي، لاستلام الموارد المالية المنصوص عليها، أدى إلى التذمر. خاصة وقد اتفق المسيرية على عدم أهلية أو صلاحية "هيئة تنمية غرب كردفان للتنمية والخدمات" لإنجاز هذه المهمة. بل طالبوا بحلها. هذا نزر يسير من تعارضات بروتكولات جنوب كردفان. فهل بقي مستقبل واضح المعالم لجنوب كردفان بعمق فترة الانتقال؟ الطريق البديل لهذا الاتجاه المتحمس، باتجاه المساواة والانصاف لخلق هوية مشتركة لجنوب كردفان، هو الحوار والاحتكام لنصوص الاتفاقية لمواجهة غياب الشفافية، لدى حكومة الولاية. الهدف كبح جماحها بالضغط الجماهيري، وصدها عن حجب استحقاقات القطاع الغربي من الموارد المالية البترولية، مما يشكل خرقا للدستور وللاتفاقية. فبينما تحيل مفوضية تخصيص الموارد إلى السلطات بكادقلي، كل من يسألها عن مصير نصيب المسيرية، تعمل الولاية "أضان الحامل طرشة".



نقاط ختامية وعلامات لمستقبل جديد



مازالت جنوب كردفان تعيش أزمة مركبة. الفكاك منها يوجب التصدي بجدية للتحديات المتشابكة، على مستوى المركز والولاية والمجتمع المحلي. الاتفاقية تعترف فقط بجيش الحركة ولا تعترف بالبناءات الإدارية والمحاكم القائمة في مناطق سيطرته، الأمر الذي يجعل الإدماج الإداري والاجتماعي/ السياسي بعيد المنال. إذا جاء الآلاف من قدامى المحاربين المسرحين من الجيشين للاستقرار بجنوب كردفان، فإن الحاكم لن تسعفه الاعتبارات الأمنية وحدها لتحقيق التعايش السلمي، بل يحتاج "عصا موسى" لتحقيق الأمن الاجتماعي الشامل. قلة الحيلة تطوق أحوال المواطن العادي من كل جانب، في بحثة عن الانصاف والأمن الاجتماعي. تسوية تناقضات نصوص الاتفاقات، وتنزيل مفهوم مرن للمشورة الشعبية، من أهم المداخل لفتح فرص جديدة لتحقيق التعايش السلمي، في إطار مصالح مشتركة وأهداف مشتركة لخلق هوية مشتركة لجنوب كردفان.



د. عبدالباسط سعيد



*مستشار اقتصادي متفرغ

No comments: